الزهد والإيثار
من فلسفة الزهد في الإسلام الإيثار. وهو ضد الأثرة، والأثرة: تقديم الشخص لنفسه ومصالحها ومنافعها على غيره، والإيثار: هو تقديم الشخص غيره على نفسه.
والزاهد يختار العيش بكل بساطة وقناعة، ويضيّق على نفسه في الحياة، من أجل راحة الآخرين، وإنما يهب ماله للفقراء لأنه إنما يلتذ بنعم الحياة حينما لا يرى معه فقيراً ينام بلا عشاء، فهو يلتذ بإعطاء الآخرين وإطعامهم وكسوتهم أكثر من راحة نفسه وطعامها وكسائها، وإنما يتحمل الجوع والحرمان والعناء من أجل راحة الآخرين وهنائهم. وهذا هو الإيثار.
والإيثار من أعظم مظاهر الجلال والجمال والكمال الإنساني المأمول، وإنما يستطيع الرقي إلى هذه القمة الشامخة من العمل الصالح أناس عظماء من أمثال علي والزهراء وابنيهما السبطين الحسنين أصحاب الكساء، الذين نزلت في شأنهم هذا (سورة هل أتى) مرآة صافية باقية تعكس للأجيال المتعاقبة ذلك الكمال المتمثل في هؤلاء العظماء الذين (يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (13) وهم يقولون: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً) (14).
وقد نالوا بهذا الإيثار أكمل الكرم والسخاء والجود، إذ بذلوا ذلك الميسور من أقراص الشعير، مع عسرهم الشديد، ولم يراعوا في ذلك القريب والبعيد، فأعطوا الأسير كما أعطوا اليتيم والمسكين. ولذلك دوّى هذا العمل الصالح من هؤلاء العظماء في السماء، حتى نزل في حقهم قرآن يتلى كل صباح ومساء!
ودخل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم على ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فرأى على باب بيتها ستاراً وعلى يديها معاضد من فضة، فأنكر ذلك بوجهه حتى عرفته منه ورجع عنها فلم يدخل عليها. فلما رجع خلعت الستار وشدت فيه المعاضد وبعثت بهما إلى أبيها رسول الله ليفعل بها ما يشاء. وفرح رسول الله بذلك وقال: (فعلت، فداها أبوها)!
وكانت تقوم في محرابها لربها حتى تتورم قدماها، وهي تدعو لجيرانها، فسألها ابنها الحسن (عليه السلام) يوماً: أماه! ما لي أراك تدعين لجيراننا ولا تدعين لنا؟ فقالت: (الجار، ثم الدار).
ويصف القرآن الكريم أنصار رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مدينته الطيبة فيقول: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (15).
والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يصف المتقين في خطبته لهمام فيقول: (نفسه منه في عناء والناس منه في راحة).
وبما أن فلسفة الزهد مبنية على أساس الإيثار، والإيثار يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكذلك الزهد يختلف هذا الاختلاف باختلاف الزمان والمكان، إذ أن الإيثار في مجتمع فقير كالمدينة على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يشتد أكثر منه فيها نفسها على عهد حفيده الإمام الصادق (عليه السلام). ولعل هذا هو سر اختلاف السيرتين: علي ورسول الله في جانب وأبناؤهما الأئمة الأطهار في جانب آخر.
إن زهد هؤلاء العظماء كان قائماً على فلسفة الإيثار، وأن الزهد الذي يبتني على فلسفة الإيثار ليس من الرهبنة في شيء بل هو عظمة إنسانية فذة نابعة من أنبل عواطف الإنسانية، وهو ينتج أقوى الروابط الاجتماعية على الإطلاق.
الزهد، والمواساة
ومن فلسفة الزهد مواساة المحرومين ومشاركتهم في حياتهم. فإن هؤلاء حينما يقيسون أنفسهم بأمثالهم من بني الإنسان وهم أغنياء يحسون في قرارة نفوسهم بالفقر والحرمان من ناحية، وتأخر عن أمثالهم من الناس من ناحية أخرى. ولا يستطيع الإنسان بطبعه أن يرى غيره ممن لا فضل له عليه يأكل ويتمتع ويفرح ويمرح، ثم يقف هو جائعاً حزيناً كئيباً وقفة المتفرّج.
وهنا يحس المتدين بمسؤولية ملقاة على عاتقه تثقل كاهله، أمام هذا الواقع السيئ، فهو يشعر في قرارة نفسه الصافية بنداء الضمير والوجدان الإنساني الحي الذي عبّر عنه الإمام (عليه السلام) فقال: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم) فيشعر بمسؤوليته تجاه هذا الواقع السيئ وفاءً بما أخذ الله عليه وما عاهد عليه الله إذ آمن بالله وكتبه ورسله.
وإذ لم يستطع ذلك بيد أو لسان فلا أقل من الإيثار ومقاسمة ما عنده لهؤلاء الفقراء المعوزين، سعياً في سعادتهم وترسم واقعهم المقيت - كما فعل ذلك ثلاثة من أئمتنا: الحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام) - وإذا لم يستطع ذلك أيضاً لكثرة الضحايا في هذا الميدان فلا أقل من أن يضمّد جراح هؤلاء الضحايا - ضحايا قسوة المجتمع الظالم - ببلسم المواساة ومشاركتهم في آلامهم وهمومهم، والتساوي معهم في فقرهم.
وإن لمواساة الآخرين في أحزانهم أهمية عظمى، خصوصاً في حياة أئمة الأمة، أولئك الذين تنظر إليهم الأمة لتقتدي بأفعالهم وأقوالهم. ولذلك نرى أن الإمام (عليه السلام) قد زهد في حياته في الخلافة أكثر من أي وقت مضى، وكان يقول في ذلك:
(إن الله فرض على أئمة العدل: أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره) (
مع تحياتى مشرف القسم الاسلامى محمد المنايلى
M_NABIL1140@YAHOO.COM